هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

معًا للمستقبل

«الجمهورية» .. تاريخ وشعب ورؤساء !!

 


فى عمر الزمان محطات لا تنسي، فكما أن لحظة الميلاد بداية فارقة، فإن لحظات التوهج والتألق هى التى تسطر التاريخ بأحرف الخلود، واليوم تحتفى «جريدة الجمهورية» بعيد تأسيسها الثانى والسبعين، إذ خرجت الصحيفة إلى النور فى أعقاب ثورة يوليو 52، ولم تكن مجرد مطبوعة جديدة فى ساحة الصحافة، بل كانت أحد ملامح التحوّل الكبير الذى أرادت الثورة أن تترجمه فى حياة المصريين. فقد احتاجت مصر آنذاك إلى منبر يعبر عن مطالب الشعب ويشرح له ملامح الدولة الوليدة، ويشارك فى إعادة تشكيل الوعى العام على أسس جديدة من الحرية والعدالة والكرامة الوطنية. وفى هذا السياق جاء تأسيس «الجمهورية» استجابة مباشرة لرؤية جمال عبدالناصر الذى آمن بأن الثورة لا تكتمل إلا بصحافة تمثل صوت الشعب، فكان هو صاحب الترخيص الرسمى للجريدة عام 1953، وكان حريصًا على متابعتها منذ لحظاتها الأولي، حتى إنه كان يراجع محتواها وشكلها قبل صدورها، ويرى فى صفحاتها وسيلة لتجسيد مشروع بناء الإنسان قبل بناء المؤسسات.

وحين كلَّف عبد الناصر أنور السادات بمهمة إصدار الجريدة، لم يكن التكليف مجرد قرار إداري، بل كان إدراكًا لحاجة الدولة إلى إعلام معبّر عن روحها الجديدة. تردد السادات فى البداية، ثم عاد ليقبل التحدى بعد إصرار عبدالناصر على أن الثورة التى نجحت فى أصعب الظروف قادرة على إصدار صحيفة فى بضعة أشهر.

يقول خالد محيى الدين فى مذكراته» إن جمال عبدالناصر اختار لـ«الجمهورية» رئيس تحرير لامعاً هو حسين فهمي.. وكان الأخير فى ذلك الحين واحدًا من أقرب المقربين إلى «ناصر». وتولى السادات مسئولية الإدارة فى «الجمهورية».. وكان عبد الناصر يتوجه كل مساء إلى دار «الجمهورية» ليراجع بنفسه المانشيتات والعناوين الرئيسية.. وهكذا شرع السادات، أول مدير عام للجريدة، فى تنفيذ مهمة التأسيس على الأرض؛ استأجر المقر، جمع الصحفيين، جهّز المطبعة، ورتّب الورق، وأدار بنفسه تفاصيل الميلاد الأول. وفى صباح السابع من ديسمبر عام 1953 دارت الماكينات، وخرجت النسخة الأولى إلى الشوارع، وكان الباعة يصدحون: «الجمهورية.. الجمهورية»، معلنين ميلاد صحيفة ارتسم فى وجدان الناس منذ اللحظة الأولى أنها لسان حالهم قبل أن تكون لسان الثورة.

ومنذ صدورها لم تكتف «الجمهورية» بأن تكون سجلاً للأحداث، بل أصبحت مدرسة يومية للوعى، ونقطة التقاء بين السياسة والثقافة والمجتمع. وتزينت صفحاتها منذ يومها الأول بمقالات عبدالناصر والسادات وعدد من اعضاء مجلس قيادة الثورة إلى جانب كبار الصحفيين والكتاب والمفكرين والأدباء، كما قدمت للقارئ خطابًا يطابق حاجته إلى الفهم، لا رغباته العابرة؛ خطابًا يحلل ويشرح ويقارن ويضع الوقائع فى سياقها الأوسع، لا يكتفى بنقلها. وكانت تستمد قوتها من تعدد الأصوات التى كتبت فيها، ومن حضور أعلام الفكر والأدب الذين أضفوا عليها عمقًا ثقافيًا جعلها فى مكانة تتجاوز الصحيفة التقليدية. فقد استقبلت صفحاتها كتَّابًا كبارًا من بينهم عبد المنعم الصاوى الذى رأس تحريرها، وعميد الأدب العربى د.طه حسين، الذى تولى أيضًا رئاسة تحرير الجريدة وقد أضاف بكتاباته بعدًا فكريًا لا يقل أهمية عن بعدها السياسي، وجعلها منصة تنوير راسخة فى زمن كانت فيه الأمة تبحث عن ملامح نهضتها..ولا ننسى عباراته المهمة إذ يقول عن دور الصحف اليومية: «إنها لا ينبغى أن تهبط إلى القراء.. وإنما ينبغى أن ترتفع بهم من الجهل إلى المعرفة.. ومن السخف إلى الجد، فهى أدوات رقى فى البيئة الاجتماعية وليست أدوات انحطاط، وليست كذلك وسائل اقرار ما هو كائن، وإنما هى قبل كل شيء، وبعد كل شيء، وفوق كل شيء وسائل التثقيف والتهذيب وإذكاء الطموح فى نفوس القراء إلى أعظم حظ ممكن من الرقي».

وظلت «الجمهورية» على مدى عقود صوتًا صادقًا يحاول أن يقدم للقارئ ما يحتاج إلى معرفته فى زمن التحولات الكبرى حتى تربعت على قمة المجد وذاع صيتها وعظم انتشارها وتوزيعها حتى قارب المليون نسخة وهو رقم لو تعلمون عظيم.

وهكذا أمضت «الجمهورية» تاريخًا طويلاً بوصفها قوة تنوير وطنية، وجسرًا بين الدولة والمجتمع، ومنبرًا يربط بين الوعى العام ومسار السياسة. وما تزال الدروس التى تقدمها تلك التجربة العريقة قابلة للتجدد، فالتاريخ يعلمنا أن الصحافة التى تؤمن برسالتها تستطيع دومًا أن تنهض من جديد، وأن تعلن الحقائق وتكسر أى حالة صمت لا تفيد أحدًا، بل تسيء حتى إلى المؤسسات التى يُظن أنها تحميها. وإن «جريدة الجمهورية» «بتاريخها وولادتها فى حضن الثورة، ورعاية قادتها، وإسهامات مثقفيها» قادرة اليوم كما كانت بالأمس على أن تكون صوتًا للشعب، ومنبرًا للعقل، وصفحة صادقة مضيئة فى سجل الصحافة المصرية.

ما ينبغى أن تتذكره أجيال اليوم من الصحفيين أبناء دار التحرير أن «الجمهورية» منذ خرجت للنور خاطبت جميع فئات المجتمع مع انحياز واضح للبسطاء منهم، بما تقدمه صفحاتها المتنوعة وملاحقها المتخصصة، ورغم أنها صدرت فى أجواء صحفية شديدة التنافسية فسرعان ما أثبتت كفاءتها، وانطلقت تؤدى رسالتها على مدى أكثر من نصف قرن، ترصد ما يجرى حولها من أحداث على الصعيدين العربى والعالمي؛ ذلك أن الله قيض لها كوكبة من الصحفيين والكتاب العظام الذين ازدادت بهم شهرتها وذاع صيتها وعلا شأنها، وتعاقب على رئاسة مجلس إدارتها وتحريرها نخبة متميزة وشخصيات ذوو شأن من رجال الثورة والسياسة والأدب والثقافة والصحافة، نذكر منهم فوق ما تقدم، جلال الدين الحمامصي، أحمد قاسم جودة، كامل الشناوي، صلاح سالم، إبراهيم نوار، إسماعيل الحبروك، ، موسى صبري، ناصر النشاشيبي، كمال الدين الحناوي، حلمى سلام، مصطفى بهجت بدوي، فتحى غانم، عبدالمنعم الصاوي، محسن محمد، وسمير رجب الذى كان له الفضل فى إنشاء المبنى العملاق للجريدة ومطبعتها الحديثة واللذين افتتحهما الرئيس الأسبق حسنى مبارك.. ونذكر أيضًا محمد أبوالحديد، ومحمد على إبراهيم وعلى هاشم. وقد حافظت «الجمهورية» على توزيعها ومكاسبها حتى وقعت أحداث يناير 2011. 

هذه دروس التاريخ التى ينبغى للأجيال الجديدة من أبناء «الجمهورية» وغيرها من الصحف أن يتعلموها، فتاريخ الصحف زاد ثقافى يرسم تاريخ المهنة ويجسد عظمة صاحبة الجلالة التى حفرت لنفسها ولا تزال مكانة راسخة فى عالم السياسة والأدب والثقافة وصناعة الوعي، وما أحوجنا اليوم لصناعة وعى رشيد يبنى العقول ويلهم الرأى العام رشده وصوابه.